بقلم:أنس السبطي
رغم بلاغ وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية التالي لقرارها القاضي بفرض خطبة جمعة موحدة على مختلف مساجد المغرب المندرج في إطار حملة “تسديد الخطاب” التي دشنتها مؤخرا، والذي حول نموذجها المعمم على الخطباء إلى مقترح ساعيا إلى التخفيف من وطأة توجهها الجديد على الرأي العام إلا أنه لا يكفي لسد باب النقاش بدليل التزام جل الخطباء بالقرار الأول، وهو ما كشف عن مستوى التسلط المَرَضي الذي يسود في دواليب الوزارة الوصية على الشأن الإسلامي، كما يفضح تعاطي الدولة المغربية مع ثابت الهوية الإسلامية الذي كان ولا يزال ضامنا لوحدة المغاربة ومحافظا على لحمتهم.
ضبط الحقل الإسلامي كان دائما يعتبر من أولى أولويات النظام المغربي الذي حرص على التحكم في خطب الجمعة لما لها من رمزية ومن تأثير عند عموم المصلين، ولا تخفى دوافعه في هذا الباب عبر توظيفه لها من أجل شرعنة توجهاته السياسية وتبرير ممارساته وكبح أية معارضة لهذا التوجه من داخل المساجد المغربية وتحديدا من مخالفيه الإسلاميين الذين يكشفون ازدواجيته وتناقضات مسؤوليه التي يصعب عدها ومن أجل منعهم ما أمكنه ذلك من استقطاب رواد المساجد لصفوفهم.
ومع ذلك فقد اقتصر مجال تدخل الأوقاف في خطب الجمعة على المناسبات الرسمية وتركت الحرية للخطيب لتدبير خطبته بالأسلوب الذي يلائمه شرط الحفاظ على خطوط السلطة الحمراء، ورويدا رويدا اتسعت مساحة الأحمر لتعم الخطبة كلها فضاقت مساحة الخطيب أكثر فأكثر حتى انعدمت في يومنا الحالي.
هذا التوجه كان مقررا منذ مدة، وما سرع في تنزيله هو ما اعْتُبِرَ خروجا عن النص من طرف عدد من الخطباء إن من جهة تفاعل بعضهم مع العدوان على غزة والدعاء لأهلها أو تعبير بعضهم الآخر عن آرائهم حول التغييرات المرتقبة في مدونة الأحوال الشخصية، وعلى الرغم من أن جل ذلك التفاعل لم يخرج عن المظلة الرسمية إلا أن مسؤولي الوزارة ومن فوقهم لم يخفوا امتعاضهم من هذه الجرأة بعد أن ظنوا أن سلسلة التوقيفات التي تعرض لها عشرات الأئمة والخطباء لأهون سبب كان لها كبير الأثر في استتباب الأوضاع لها.
لقد سجلت وزارة التوفيق سابقة في مجال تكميم الأفواه، فحتى أعتى الأنظمة الاستبدادية كانت تعتمد على إعادة تدوير آراء مسؤوليها فتنوع من أدواتها لتمرير دعايتها باستخدام أقلام ومتحدثين مختلفين في الصحافة وفي الفضاءات العامة، أما وزارة الأوقاف فهي تضرب نفسها بنفسها بتحويلها لآلاف الخطباء التابعين لها إلى مجرد تلاميذ في المستوى الثالث ابتدائي يقرأون ورقة تملى عليهم دون السماح لهم بالاجتهاد في تبليغ مضامينها، وهي عمليا تحكم بعدم أهليتهم لمهمة وعظ المصلين وإرشادهم، وفي ذلك إقرار بعجزها فهم محسوبون إداريا عليها وقد خبرت ولاءهم لها هي من تحصي كل شاذة وفاذة عليهم فكيف ما زالت تنظر إليهم بعين الريبة والتشكك، وهي من اختارتهم وأشرفت على تكوينهم فلا يحق لمسؤوليها اتهامهم بالقصور، فالقصور في هذه الحالة ينسب لمن أطرهم وعلى رأسهم وزيرها الذي يعد من قدامى الوزراء المعمرين في العالم والذي حظي بالوقت والإمكانات الكافية لتمرير أهداف السلطة المخزنية.
إن التحجج بالسعي للقطع مع الفوضى في الوعظ وفي الخطابة على المنابر ليس هو القصد من حملة التوفيق الأخيرة، وإلا فلتبدأ وزارته بعدد من رموزها الذين كثرت سقطاتهم وإساءاتهم لمواقعهم، فمن التورط في ربط الصلة مع سفاكي دماء المسلمين في فلسطين والمنتهكين لحرمة المسجد الأقصى إلى إباحة التعامل مع المؤسسات الربوية إلى إدمان الاستعراض على مواقع التواصل الاجتماعي وإشغال الناس بسفاسف الأمور حتى تسببت رعوناتهم في جرح صورة الوقار والهيبة التي رسخها فقهاء الأمس في المجتمع والتي جعلت الكثيرين يتحسرون على زمانهم رغم ما كانوا يوسمون به من جمود. الخطير أن القمع هنا تجاوز توجيه روحانية المغاربة لخدمة الأجندة المخزنية إلى إلغائها من الأساس في استبداد لائكي اخترق قلاع المغاربة الروحية، فمثلما جعلوا مسألة الفتوى شأنا بيروقراطيا مؤسساتيا بغاية إخضاعها للسلطوية ورغباتها، فكذلك يصنعون اليوم مع خطب الجمعة التي تم تنميطها من طرف مكاتب الرباط المكيفة التي أصبحت تفرض عباراتها الخشبية الباردة ومضامينها التحريفية على الجميع دون اعتبار للفروقات الكبيرة بين فسيفساء المجتمع المغربي، حيث تستوي عندهم الأحياء المرفهة مع الأحياء الشعبية والحواضر مع القرى الجبلية أو الصحراوية، مما أدى إلى غياب التفاعل من طرف الخطيب العارف بشؤون المصلين في قريته أو في حيه معهم وأفقده أدواره التربوية والإرشادية التي تزكي تدينهم الفردي لتتحول خطب الجمعة إلى تجمع فلكلوري فاقد للروح.
وزارة الأوقاف ومن ورائها الدولة المغربية التي ترفع شعار تأمين الأمن الروحي للمغاربة هي أول من تعبث به بممارساتها التي تجاوزت كل منطق، والمفارقة أنها كانت وما تزال دائمة الشكوى من هجرة المجتمع المغربي نحو “التدين المشرقي” متناسية أن الطبيعة لا تقبل الفراغ، فبالقدر الذي تصادم فيه توجهات المغاربة الإسلامية بالقدر الذي توسع فيه من الشرخ بينها وبينهم، فتفرض عليهم البحث عن بدائل خارج الحدود أو حتى داخلها في فضاءات غير مؤممة كمنصات التواصل الاجتماعي لإشباع حاجاتهم الروحية، بل حتى المكاسب التي حصلت عليها الوزارة المذكورة في العقدين الماضيين بفتح أبوابها أمام الدعاة الشباب آنذاك لاحتوائهم في بوثقتها تفقدها اليوم بعد أن استهلكوا جل رصيدهم لدى المتأثرين بهم بسبب مبالغتهم في الإذعان لها وبسبب حماستهم لتنزيل كل المخططات التصفوية لأدوار المسجد الأصيلة.