بقلم :أنس السبطي
لم تكن نداءات للاستهلاك أو للتسلية الإلكترونية تلك التي شاعت في مواقع التواصل الاجتماعي وسط مجموعات من الشباب المغربي الداعية لهروب جماعي من المغرب منتصف الشهر الحالي، ما دامت قد غادرت العالم الافتراضي وتجسدت على أرض الواقع، حيث تقاطرت على مدينة الفنيدق قوافل من الشباب حجوا لموسم النزوح هذا زمرا وأفرادا في الموعد المقرر سلفا مما استدعى معه استنفارا أمنيا يقابله يسعى لكبح هذه الموجة الشبابية.
لا يهم من يقف وراء المد الشبابي المذكور سواء كان تجسيدا لصرخات عفوية وجدت من ينتظم حولها أو كان بإيعاز من جهة منظمة مناوئة أو من أطراف داخل الدولة فإن المشهد غير مشرف في كل الأحوال، ففي الوقت الذي يجب فيه أن يطالب المحتل السابق للمغرب الذي ارتكب الفظائع في المناطق التي استولى عليها بالقهر والإكراه بتصفية تركته الاستعمارية يترامى شبابنا ويجازفون بحياتهم لقاء أمل بعيد بمعانقتهم للفردوس الأوروبي في مغامرة غير محسوبة العواقب، وأين في سبتة السليبة التي يهجمون عليها ليس لاستردادها وتحريرها من محتلها وإنما من أجل أن يتكرم السيد الإسباني عليهم بإدخالهم في حظيرته كرعايا من الدرجة الثانية أو الثالثة، والمؤسف أن يجد المهاجر فعلا أن وضعه الجديد على علاته أفضل بكثير مما عاشه في بلده الأصلي، وتلك إهانة بالغة للكرامة الوطنية.
ولئن التمسنا الأعذار لفئات من القاصرين ومن الشباب من ضحايا سياسات التفقير والتجهيل والتهميش، فإن احتمال ضلوع أطراف متذمرة في الدعوة لهذا الانتحار الجماعي غير مقبول ذلك أن الاحتجاج الداخلي أكثر نجاعة وفعالية، أما إن سلمنا بالقراءات التآمرية التي ترجح أن هناك من المسؤولين من يلعب بورقة المهاجرين للضغط على الجارة الشمالية، فإن دور “البواب” ليس شيئا يبعث على الافتخار، فكل المكاسب المفترض تحققها من هذا الابتزاز الرخيص ستتقزم أمام الفضيحة العابرة للحدود المتمثلة في نشر غسيلك وإظهار عوار تسييرك حتى أن بلدك أضحى طاردا لأبنائه، هذا في الوقت الذي سوق المغرب الرسمي فيه لنفسه أنه أضحى ندا لإسبانيا فقط لأنه حشر اسمه إلى جانب اسمها في مهزلة تنظيم مونديال 2030.
عموما فالنتيجة أن من صنع الحدث هو من وصل لشوارع الفنيدق ولشاطئها وعقد العزم على بلوغ مرماه، والذي عبر عن نفسه وبعث برسائل من واقع معاناته هي بالتأكيد أبلغ من كل مقال، فأن تهب الحشود الشبابية من كل مناطق المغرب إلى الحدود مع سبتة بعد أن أداروا ظهورهم للوعود الرسمية ويعلنوا عن تحديهم للأجهزة التي تقف في وجه تحقيق طموحهم ويواجهوا خطر الغرق ببصيص أمل ضئيل في النجاة وفي معانقة الحلم الأوروبي هم الذين لم يعرف عليهم تبني أية إيديولوجيات وهم أبعد الناس عن امتلاك الوعي السياسي الكافي ليبرروا خطوتهم هذه، فهذا يجعل أن المكابرة في رفض الاعتراف بالواقع ضرب من العبث الذي لا يفضي لأية نتيجة، “فما من قط يهرب من دار العرس” كما في المثل المغربي الدارج.
نحن أمام لحظة انكشاف كبرى تنسف البروباغندا المخزنية التي تشكلت في السنوات الماضية والتي تضخمت زمن كورونا الذي لوث الوعي السياسي لفئات من المغاربة، حيث فندت كل الشعارات البراقة والادعاءات الرسمية حول الدولة الاجتماعية والتنمية البشرية والنهوض بأوضاع الشباب، لتخرج ضحايا غسيل الدماغ المكثف من وهم التفرد والخصوصية على باقي البشر ومن خرافة المؤامرة الكونية على “أجمل بلد” و”أذكى شعب في العالم” وتعيدهم إلى مرارة أفقهم المنسد.
لا شك في ولاء المغاربة لبلدهم غير أن هذا الولاء يجب أن يستند على أسس متينة تعبر عن هوية الشعب وأصالته وتدفعه نحو ضمان حقوقه بالموازاة مع الالتزام بواجباته، أما الارتكاز على الأضاليل وعلى تزييف الوقائع لخلق وطنية منتفخة بالإنجازات الكاذبة والتي لا تعرف المواطن إلا في المغرم، فمآلات ذلك صادمة وتؤدي لا محالة إلى اليأس القاتل وما حدث ليلة 15 سبتمبر بعض تجلياته.