النص تم تحريره بتصرف نقلا عن النقيب محمد زيان المعتقل السياسي بسجن «العرجات».
الصراع بمنطقة الشرق الأوسط جعل الحديث كل الحديث عن التهديد النووي الإيراني المحتمل بدعوى حماية إسرائيل واللهث وراء فتح جبهات حروب جديدة بتقديم الدعم العسكري والاستخباري واللوجستي للعدوان الإسرائيلي ضد إيران، والحال أن هذا التهديد الإيراني يبقى مجرد احتمالات لما قد يقع في المستقبل البعيد.
ما يجب الحديث عنه اليوم قبل غد هو ما يجري حاليا من تقتيل للأطفال والنساء والشيوخ والشباب في حرب إبادة دقت طبولها منذ السابع أكتوبر 2023 ومازالت مستمرة حتى اليوم 639 محدثة حصيلة ثيقلة أسقطت أكثر من 80 ألف شهيد.
قلت إن الحديث عن سلاح نووي وحرب نووية محتملة نقاش في غير موضعه الآن والحرب الكلامية التي صاحبت الأمر تبقى جعجعة بلا طحين، فالواقع يقول ويؤكد عبر أحداث يومية إنه لا يمكن لأية دولة استعمال أسلحة نووية في نزاع حربي بينما يتم استعمال وبشكل يومي البنادق والدبابات والطائرات الحربية والمسيَّرة في قتل الأبرياء وإبادتهم إبادة جماعية. وبالتالي، فقد بات لزوما توجيه تحليلاتنا الجيوستراتيحية ليس نحو الحدث الذي لم يحدث بعد أو المحتمل حدوثه بل صوب الخطر اليومي المحدق؛ فالحديث عن احتمالات وتوقعات مستقبلية سابق لأوانه وتنكر للشعوب ولاحتياجاتها الآنية.
إن اعتبار إقصاء إرادة الشعوب المرتبطة في الأنظمة الديمقراطية بمفاهيم الديمقراطية والسيادة الشعبية حيث هذه الإرادة هي الأساس الشرعي للسلطة، واعتبار إرادة الحاكمين سلطة مطلقة خطأ منهجي صِرف وبلادة فكرية اتضح قِصَرُ نظرها؛ فالواقع الظاغط حاليا هو واقع الشعوب والجماهير ومتطلباتهما، أما ما يروج من شعارات بالية فما هو إلا جهل فكري يدفع إلى إنكار أصحاب الحروب الحقيقيين والقادة العسكريين الذين قادوا الجيوش لشل منطقة الشرق الأوسط وجر العالم إلى رقعة حرب غير محسوبة النتائج؛ ففي الوقت الذي يوجه أصحاب تيار “كلنا إسرائيليون” المنتشر عبر العالم أصابع اتهامهم صوب الفلسطينيين، كان الأولى أن يحثوا على زجر إسرائيل وداعمتها الولايات المتحدة الأمريكية.
إن من يسعى إلى إحداث جَلَبَة مع الضحايا من قتلى ومصابين يوميا في كل من أوكرانيا أو فلسطين وغض الطرف عن آلات الحرب المدمرة سواء الإسرائيلية منها أو الأمريكية، وكذا اعتبار أية محاولة للمقاومة لتصفية الاحتلال انحيازا إيديولوجيا، أمر غير معقول بل وانحياز للطرف الأقوى في المعادلة؛ ما دام هذا القوي لا يسمح للضعيف بأي تحرك كيفما كان نوعه ووسيلته.
إن هذا الأمر لا يحتاج بالتأكيد إلى تعقيد، فالحقيقة بسيطة للغاية وقد تجلت بوضوح على مَرِّ عقود وعقود مضت وانتهت إلى خلاصة وحيدة هي أن اعتبار ضحايا الأمس مجرمي اليوم خطأ فادح ومجزرة جديدة لذبح الإنسانية، خاصة إذا أخذنا بأن لإسرائيل الحق في حدودها الشرعية المسطرة من طرف المنتظم الدولي، حيث من الضروري هنا تذكير الجميع بأن هذا الحق لا يمكن تصوره إلا بعد الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في الحياة، فحق إسرائيل في الوجود لا يمكن أن يسبق بأي حال من الأحوال حق الفلسطينيين في الحياة وضمان حقهم في العيش الكريم دون تقتيل أو تجويع أو ترحيل أو تنكيل.
طبعا وهذا لن يتأتى دون التشديد على أن كرامة الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء، فالإنسان بفطرته ينبغي تقديره واحترامه لا تعذيبه وشتمه أو معاملته معاملة مهينة، هذا بغض النظر عن أن مصطلح (الكرامة الإنسانية) من المصطلحات التي جاءت في مقدمة الإشارة إلى حقوق الإنسان في العديد من الإعلانات والمواثيق الدولية كديباجة الإعلان الدولي لحقوق الإنسان الذي نص صراحة على أنه (لمّا كان الإقرار بمـا لجميـع أعضاء الأسرة البشرية من كرامة أصيلة فيهم، ومن حقوق متساوية وغير قابلة للتـصرف، يشكل أساس الحرية والعدل والسلام في العالم).
وتبعا لذلك، فلكلٍ من أطراف الصراع الحق المطلق في الدفاع عن حقوقه وممتلكاته وحماية نفسه من أي خطر محدق، وإذا طبقنا هذه القاعدة على الوضع الراهن فإن الأمر يستدعي وبشكل فوري نزع السلاح من إسرائيل.
إنه لا يمكن أن نسمح لإسرائيل باستعمال السلاح في قتل الفلسطينيين الأبرياء أو حتى استعماله في أرض الجولان بالضاحية الجنوبية لسوريا التي تم اجتياحها من طرف هذا الكيان منذ عام 1967 وفي وادي البِقاع بلبنان؛ فالمنطق يقتضي نزع السلاح في المنطقة برمتها والسماح للجميع بالبحث عن سبل النمو والتقدم والازدهار وليس البحث عن سياسات تهدف إلى حماية إسرائيل ولو على حساب الفلسطينيين أو أي شعب آخر من الشعوب التي طالها المد الإسرائيلي – الأمريكي. فأما والحال هذا: مؤاخذة أشخاص يلجأون إلى الهجوم الشخصي بأدوات بسيطة لحماية أنفسهم من بطش آلات حرب فتاكة فذاك ضرب من الجنون.
نحن كعرب أو كمجتمع ننتمي للفكر الشرقي إلم نكن نملك حق بناء أحكام جاهزة أو موقف رافض أو عدائي تجاه أي شخص ينتمي إلى هذا الكيان أو إلى من يدعمه ويدافع عنه، فإننا نملك على الأقل الحق في انتقاد تلك الأفكار الخاطئة التي تحاول إسرائيل أو عرابتها أمريكا وكذا الدول الداعمة والمطبعة بسطها وتصريفها إلى أذهاننا، ولا أظن أن العرب الذين يتعرضون لقمع يومي لحقهم في التعبير يكرهون الرأي الآخر أو يمنعون الغير من ممارسة حرية التفكير لأنهم وبكل بساطة هم من يصادر حقهم في ممارسة هذه الحرية.
ومن هذا المنطلق، لا يجوز اعتبار الكلمة حرةً إذا انطلقت من مبادئ خاطئة أو وقائع منحرفة، ولعل الحقيقة تسمح لنا بالتأكيد على أنه لن يكون هناك شرق أوسط متسامح ومزدهر توجد وسطه دولة تفضل الحرب على الحوار. ولأن «التاريخ لا يكتبه سوى المنتصرين» كما قال الفرنسي اليميني «روبار برازياك» وهو أمام حكم الإعدام عام 1945، فمن واجبي محاربة أي انحراف أجده زاغ بالقضية عن الصواب نحو الخطإ انتصارا للحق والحقيقة.