قَلَّ ما يثير المغاربة نقاشا حول مصداقية طلب المغرب توقيع معاهدة الحماية من الحكومة الفرنسية، وما يمكن أن يتولد عن هذا النقاش من أسئلة مضمرة أو مسكوت عنها أو لا مفكر فيها من قبيل:
– هل “المعاهدة” التي تمت بين السلطان عبد الحفيظ والدولة الفرنسية كانت للحماية أم صكا للاحتلال؟
– هل السلطان من خلال تلك الوثيقة كان يروم حماية الوطن والشعب أم حماية عرشه وسلطانه؟
– لماذا تخلى السلطان عبد الحفيظ عن شروط البيعة وأصر على إبعاد العلماء والمفكرين عن بلاطه وبطانته؟
– هل كان الناس على صواب حين لقبوا عبد الحفيظ بسلطان النصارى؟
– هل كانت معاهدة الحماية من جانبين، أي الحكومة الفرنسية والسلطان أم هي وثيقة من جانب واحد هو المحتل الفرنسي؟
ـ هل تضمنت المعاهدة التزامات لحكومة الجمهورية الفرنسية بحماية المغرب وطنا وشعبا أم تضمنت فقط التزامات بحماية السلطان وعرشه؟
– ما هي وعود المعاهدة التي أُعلِن عنها وكان يروج لها وقتئذ من قِبَلِ السلطان وحكومة الاحتلال قبل وبعد التوقيع يوم 30 مارس 1912 بفاس.
– هل فعلا تحققت الوعود التي روجت لها المعاهدة أم أن مآلاتها وعواقبها كذبت ادعاءات السلطان وحاشيته وإعلامه والمطبلين لاختياراته السياسية؟
إن الغرض من طرح هذه الأسئلة وغيرها ليس بالضرورة النبش في الوثائق التاريخية وفي مقدمتها الجريدة الرسمية الفرنسية في عددها الأول الذي صدرت سنة 1913، والتي تضمنت بنود وثيقة المعاهدة، ولا أيضا كتاب “العلائق السياسية للدولة العلوية” الذي يعتبر مرجعا رسميا باعتبار أن مؤلفه عبد الرحمان بن زيدان هو أحد مؤرخي الدولة العلوية، وإنما الغرض الرئيس من عرض هذا الموضوع في هذا الظرف بالذات، هو محاولة ربط لحظة توقيع معاهدة الحماية بلحظة توقيع اتفاقية التطبيع، والنظر في مدى تطابق أو تشابه اللحظتين، ومن ثم التوجس من الوقوع في نفس المآلات والعواقب التي خلفتها “معاهدة الحماية”، وعلى رأسها رهن البلاد ومقدراتها وسيادتها، بعدما رافقت وثيقة الحماية وعودا غير مكتوبة يمكن إجمالها في التعاون بين الجهتين من أجل ضمان الاستقرار الداخلي والأمن العام للملكة، وضمان السيادة على كل أقاليم البلاد، مع توفير الأمن والرخاء الاقتصادي. ولعلها ذات الوعود التي تنثرها منابر الإعلام الرسمية وأبواقها عبر وسائل التواصل بخصوص اتفاقية التطبيع، حيث تزعم أن بهذه الاتفاقية سوف يستكمل المغرب وحدته الترابية، وسيحظى باستثمارات اسثنائية، وسيتحول إلى قطب اقتصادي وصناعي وسياحي…، إذا ما هو فتح المجال لتوسيع “التعاون” مع الكيان الصهيو.ني في كل المجالات خاصة منها الأمنية والعسكرية والاستخباراتية التي ستمهد لباقي أشكال التعاون الاقتصادي والصناعي والتجارية.
وبالعودة إلى سياق وثيقة “الحماية”، نجد أن لحظة الإطاحة بالسلطان عبد العزيز والتخلي عن شروط البيعة من قِبَلِ عبد الحفيظ بعد اغتيال الشيخ أبو الفيض الكتاني الذي كان حريصا على تطبيقها، وعدم اعتراف السلطان الجديد بدستور 1908، كلها عوامل أضعفت سلطة الحكم وسرَّعت بقبول “معاهدة الحماية” أو بعبارة أصوب سَرَّعَتْ بمنح جيش الحكومة الفرنسية مشروعية احتلال المغرب والسطو على كل مقدراته وإخصاع رقبة الشعب لسلطته عبر بوابة القصر وتوقيع السلطان طوعا أو كرها عن الوثيقة. لقد أثبت التاريخ لكل المغاربة بمختلف مشاربهم أن ما وقع بعد توقيع معاهدة السلطان عبد الحفيظ مع فرنسا سنة 1912 لم يكن لا حماية للوطن وثرواته ولا حماية الشعب وسيادته، بل كان تسليما للبلاد وشعبها المحتل الفرنسي ليعتو فيها استنزافا للثروات، وتقتيلا وأسرا لكل من يعارض سياساته الكولونيالية. على ذلك، فإن البند الثاني من الوثيقة يتضمن كلاما صريحا بأن المغرب إزاء احتلال عسكري فرنسي تحت غطاء السلطان وتزكية منه حيث جاء في الوثيقة “جلالة السلطان يساعد من الآن على الاحتلالات العسكرية بالإيّالة المغربية….والدولة الفرنسية تقوم بعمل الحراسة برا وكذلك بحرا بالمياه المغربية”. والنتيجة أن المغاربة ظلوا أزيد من أربعة عقود يقاومون المحتل الفرنسي الذي دخل زورا لحمايتهم بكل الوسائل، وقدموا آلاف الشهداء، وفقدوا مليارات الدراهم من ثروات البلاد التي كانت تهرب، كما أضاعوا نصف قرن من البناء في مقاومة العدو المحتل. وعلى الرغم من نيلنا لاستقلالنا الصوري سنة 1956 لا زلنا لحدود كتابة هذه الكلمات نؤدي ضريبة الاحتلال في عدة قطاعات اقتصادية حيوية، بل إننا وللأسف الشديد لم نطلع لا على الوثيقة الحقيقية للحماية ولا الوثيقة الحقيقية للاستقلال وما تضمنتهما من شروط لحكومة المحتل، ويكفي ما ذكرته وزيرة تونسية بعد ثورة الياسمين من كون عدد كبير من الفرنسين يتقاضون أجرة البطالة من ميزانية الدولة التونسية، وقس على ذلك ولا يأخذك شك في كل الدول التي احتلتها فرنسا.
إن المغرب اليوم، وهو يوقع على اتفاقية التطبيع، يعيش أوضاعا لا تقل خطورة عن سابقتها زمن التوقيع على “الحماية”؛ الأمر الذي دفع النقيب محمد زيان في مرات عديدة إلى طرح سؤال “من يحكم المغرب”، وهو السؤال الذي دفع ولايزال من أجله ثمن حريته في الاعتقال والمحاكمات الماراطونية. إن هذا السؤال يختزل ذات التخوفات والهواجس التي رافقت التوقيع الغامض على معاهدة “الحماية” التي لم يحضرها أحد غير عبد الحفيظ، ولم يطلع على بنودها أحد وربما حتى هو بنفسه!
إن توقيع اتفاقية التطبيع في الظروف والأوضاع العصيبة التي تمر منها السلطة الحاكمة في المغرب، والتي لم يُسمح للنقيب زيان التساؤل عنها أو التعبير عن موقفه تجاهها حين قال في أحد أشرطته: “من حق الملك أن يمرض فهو بشر، ومن حقه أن يتمتع بالراحة التي تكفيه وإن اقتضى الأمر أن يبتعد عن مهام الحكم، لكن من حق المغاربة أن يعرفوا من يحكم المغرب ومن يتصرف في ثرواته!”
إننا نواجَهُ اليوم بنفس الوعود التي تم الترويج لها زمن ما سمي بمعاهدة الحماية، حين طُلِبَ من المغاربة القبول بالمحتل العسكري لأنه سيضمن لهم الأمن والاستقرار، وأنه سيقضي على كل القلاقل وسيوحد أقاليم البلاد، وأنه سيجلب لهم التنمية الاقتصادية والتقدم في مجالات التنظيم والإدارة والتدبير والتخطيط، بما يعود على المغاربة بالرفاه وعلى الوطن بالرقي. وها هم المغاربة اليوم يدعون مرة أخرى إلى القبول بالتعاون مع الكيان الصهيو.ني المحتل وجعل أبواب المغرب مفتوحة مشرعة له في كل المجالات، لأن هذا القرار سيضمن استعادة وحدتنا الترابية، كما سيضمن تنمية بلدنا، وهي نفس الشعارات والادعاءات التي رُفِعَت حين معاهدة “الحماية” والتي وجدنا أنفسنا محتلين ومنهوبين وعديمي السيادة ومقسمين إلى ثلاثة مناطق، شمال وجنوب إسبانيين، ووسط فرنسي، ثم طنجة دولية، ناهيك عن إغراق المغرب في مديونية باسم الحماية وفقدانه لسيادته الكاملة.
إن تطابق المبررات والادعاءات في كلتا المعاهدتين، وتشابه دوافعها ودواعيها، وتشابه الجهات التي قامت بها على انفراد، وتشابه التكتم على بنودها، وتشابه سرعة تنفيذها، كلها تسمح لنا أن نتوجس خيفة من إعادة نفس التجربة بآليات تحكمية جديدة ليس بالضرورة أن تكون عسكرية، إذ يكفي الطامعين في المغرب حرية التصرف في مقدراته وثرواته وتحويله إلى أداة طيعة في يد الصهيونية العالمية وأرنب سباق نحو التطبيع وصهينة المنطقة.
بناء على ما ذكرناه، فإننا ندق ناقوس الخطر، ونحذر من رهن البلاد في يد الصهاينة بدعوى الحفاظ على الاستقرار السياسي والأمن الاقتصادي. وهنا أشير، أن النظام الحاكم في المغرب لو أنه يتعامل مع مكونات الشعب المغربي بنفس منطق التنازلات التي يتعامل بها مع القوى الخارجية، ويمنح الفاعلين السياسيين المغاربة نفس مساحات الثقة والفعل التي يعطيها لحلفائه الخارجيين، ولو أنه تعاون سياسيا مع الجبهة السياسية الداخلية بنفس الروح والطموح اللذين يتعامل بهما مع الصها.ينة والحكومات الغربية الداعمة لهم ، لكان المغرب متماسكا قويا مستقرا لا يحتاج إلى من يقوي موقفه، بل يستمد قوته من تماسك جسمه السياسي ووحدة شعبه.
فمتى سيستوعب الحكام أن القوة والوحدة والاستقلال والأمن والاستقرار والسلم الاجتماعي تتحقق بتطبيع العلاقات مع الشعوب داخليا، وليس بتطبيع العلاقات مع الأعداء خارجيا، ذلك أن أبناء الوطن يظلون دائما أوفياء للوطن، وأن الأعداء كاللئام كلما أكرمتهم ازدادوا تمردا وطمعا وهو ما نخشاه ونحذر منه وتدعو عاجلا وليس آجلا إلى إسقاط التطبيع مع الكيان المجرم الغاصب، قبل أن نعيد تجربة “الحماية” التي انقلبت إلى احتلال ما زلنا نعاني من تبعاته.
أضع كلمة “حماية” بين مزدوجتين لتحفيظي عليها، فهي إما احتلال أم حماية لجهة معينة غير الشعب والوطن.