في أحد أعظم أعمال «ستيفن كينغ» بعنوان: «11.22.63» حول مسافرٍ عبر الزمن يحاول منع حادث اغتيال رئيس الولايات المتحدة الأمريكية «جون إف كينيدي». يكتشف الشاب الذي يُدعى «جيك» بوابةً في مخزن الطعام التي تنقله إلى عام 1958. بعد بِضْع زياراتٍ وعدة تجاربَ، يستنتج «جيك» أن تغيير التاريخ أمر ممكن، ومع ذلك فإنه يُقرر البقاء طويلا في الماضي، ولا يستغرق سوى دقيقتيْن في الزمن الحاضر. قرر أن يعيش في الماضي حتى عام 1963 لكي يتمكّن من منع اغتيال «جون كينيدي»، معتقدًا أن هذا التغيير سيُفيد البشرية بشكل كبير. بعد سنوات من مطاردة «لي هارفي أوزوالد»، تمكّن «جيك» من منعه من إطلاق النار على كينيدي.
عند عودته إلى الحاضر، توقّع أن يجد العالم قد تحسّن نتيجة ذلك، لكن ما حدث كان العكس. تعمّ الكوارث في كل مكان، ويجد منزلَه القديم مدمرا وجزءا كبيرا من العالم قد دمرته الحرب النووية. متفاجئا ومستاءً من الحاضر، يعود «جيك» مرة أخرى إلى عام 1958 ويُعيد التاريخ لنِصابه.
إلى جانب كونه عملا أدبيا تأمليا بارعًا، فإن رواية «11.22.63» هي مثال كلاسيكي لكيفية ارتباط كل شيء في العالم ببعضه البعض. «تأثير الفراشة» فكرة مفادها أن الأشياء الصغيرة يمكن أن تؤثر بشكل متفاوت في نظام معقد، كما يمكن أن تكون الأحداث الصغيرة مُحفزاتٍ لها ما بعدها.
بالعودة إلى ما يقع في البلد، سَعِدَ المغاربة كثيرًا لانفراجة الـ30 يوليوز التي همَّت الصحفيين والمدونين ونشطاء مواقع التواصل الاجتماعي سجناء الرأي بأحكام قضائية متفاوتة، وهم اليوم ينتظرون انفراجة الـ20 غشت لتبييض كافة السجون من معتقلي الرأي والمعتقلين السياسيين لتهيئة الظروف والأجواء نحو منعطفٍ جديدٍ يهم مناحي الحياة.
التطورات المحلية والإقليمية والدولية تتطلب بل وتفرض طَيَّ صفحة الاعتقال السياسي عبر إفراغِ السجون؛ تتطلب مُعانَقة محمد زيان أكبر معتقلٍ سياسيٍّ في المغرب النقيب السابق لهيئة المحامين بالرباط ذو الـ82 عاما للحرية؛ رجل من رجالات الدولة الكبار مكانه خارج السجن وليس السجن. تتطلب أيضا رفع الاحتجاز عن ناصر الزفزافي (20 سنة سجنا نافذا) ونبيل أحمجيق (20 سنة سجنا نافذا) وسمير إغيد (20 سنة سجنا نافذا) وزكريا أضهشور (15 سنة سجنا نافذا) ومحمد الحاكي (15 سنة سجنا نافذا) ومحمد جلول (10 سنواتٍ سجنا نافذا).
المغرب بحاجة لأبنائه؛ إلى رفع الحيْف عن أزيد من 100 معتقل سياسي ومعتقلَ رأيٍ بمختلف سجونه، بحاجة إلى تنمية مستدامة إلى صحة جيدة وتعليم في المستوى إلى اقتصاد قوي وإلى سُمعة حقوقية طيِّبة بين المنتظم الدولي، فيكفي الصورة المُشوَّهة التي لازمته سنواتٍ وسنواتٍ منذ عام 2016 بفعل فاعل.
من الفاعل؟ الفاعل عزيزي القارئ هو من يريد سوءًا بالبلد؛ من أمر بالاعتقالات من خطط ونفذ وشارك. أكيد أنكم عرفْْتُم من تكون هاته الجهة، هي بكلِّ بساطة من استطابَتْ لحم المعتقلين وأسرهم ومقربيهم نَيِّئًا فأكلته، من عرَّت وسبَّت وقذفت في إطار عنف رقمي رافق عنفاً مادياً شديداً؛ اعتقالات ومحاكمات صورية بالجملة وأحكام قضائية من ضرْبِ الخيال.
هذه الجهات يَغِيضُهَا سيْرُ البلدِ في الطريق الذي من الأجدى السير فيه؛ طريق إصلاح الخطإ ورفع الضرر عن أبنائها، إذ لا ضَيْرَ ولا ضِرارَ في أن تُصَحِّح الدولة أخطاءً كلَّفت مواطنيها سنواتٍ من العمر. إنه تواضعٌ لا يحقِّر من شأنها بل يزيدها رِفْعَةً وعُلُوًا، فلا يمكن على أية حالٍ إنكار ما اقترفه بعضٌ من مسؤوليها.
هي نقطة تحولٍ مهمة في كيفية تفكير المطبخ السياسي التي يُمكن على إثرها بناء الكثير من مشاريع الاحتواء الوطني وتقوية الجبهة الداخلية لو حَسُنَتِ النوايا بسبب استثنائية الظرف وحجم الضغوط على المملكة في مرحلة تشهد تزاحم الأجندات الإقليمية والعبث الكوني الذي خلقته الحرب على غزة.
الأسلوب القديم في الإنكار لم يعُد مُجدِيًا ولا منْتِجًا والتقييم للأحداث يجعل كسْرَ الحِصار عن المعتقلين كان ومازالَ ضروريا لاجتياز غرفة من الغرف المُظلمة في تاريخ المغرب المعاصر، كما تفرض طبيعة المرحلة على الدولة أن تتحدث عن مشاكلها وتُقِرَّ بأخطائها، وعموما فالمغرب يكبُر دائما عندما يعترف بأخطائه.
قلت إن الجهة التي غَاضَهَا العفو عن المعتقلين السياسيين، عادت منذ اللحظات الأولى من خروجهم إلى عادتها القديمة، وباشرت أبْواقَها حمْلتَها القمْعية العنيفة تُجاهَ هؤلاء وتجاه من هم ما يزالون رهن الاعتقال، بل إن الأمر بلغ بموقع العامل السابق في وزارة الداخلية إلى تهديد الصحفي سليمان الريسوني الذي لم يَهْنَأْ بعدُ بِنَسِيمِ الحرية بإعادته إلى زنزانته الانفرادية.
ماذا؟ أيْ نعم هي الحقيقة، ففي مقالٍ حاقدٍ سيخرج «برلمان. كوم» وهو أحد أدوات القمع الرقمي في المغرب، لِيُوجِّه سَوْطَه من جديد نحو جسدِ سليمان وكأنه لم تَكْفِهِ الخمسُ سنواتٍ إلا قليلاً التي أمْضاها مسجونًا في زنزانة انفرادية بجناحٍ أمنيٍّ يضم ثلاثين زنزانة خالٍ كله من السجناء إلا من الطُوبَّات والفئران والحشرات الضارة والنافعة، ولم تَكْفِهِ أيضا الإضرابات عن الطعام المتوالية والمتتالية والتي فعلتْ بجسده ما فعلت، وها هي صور مغادرته للسجن تحْكي واقعاً مَرِيرًا عاشَه داخل السجن، فخروجه من السجن لم يَكُنْ البَتَة كدخولِه وعمومًا 85 كيلوغراما ليست هي الـ43 كيلوغراما.
ماذا بخصوص النقيب محمد زيان؟
يُحاول صاحب الموقع القمْعِي هذا تصوير النقيب محمد زيان مُختلسًا للمال العام ومُستغِلا بصفة غير شرعية لأموال الدعم العمومي الموجهة للحملة الانتخابية للانتخابات المحلية لسنة 2015، في إطار عملية تمويهٍ للحقيقة؛ حِيلَة من المؤكد أنها لن تَنْطليَ على أحدٍ من المغاربة الذين واكبوا التضييق الممنهج الذي تعرَّض له النقيب زيان وعلى مراحلَ، وقد ظلوا يعبِّرون عن أسفهم لاعتقال الرجل حتى الآن. وعموما يكفي العودة إلى الوثائق التي أدلى بها ليس النقيب زيان وإنما «البيْدق» الذي حرَّكته الأجهزة في هذا الملف الجنائي لِتَتَبَيَّنُوا الأمر؛ وثيقتان مُنْفصِلتَان تُثْبِتان بأن الذمَّة المالية للحزب المغربي الحر صافية وأن المبلغ قد تم استِرْدَادُه بالكامل، وهو فِعلا ما تم تَذْيِيله بتقريريْ المجلس الأعلى للحسابات لسنتيْ 2022 و2023.
وهذا كائن حزبي آخر كان شاهدًا على الاتفاق الذي كان في طريقه بين الحزب المغربي الحر ووزارة الداخلية؛ فالنقيب محمد زيان وبعد أولِ مراسلةٍ لوزارة الدخلية قبل سنواتٍ خَلَتْ فيما يخص هذه الأموال غير المستحقة، قد لجأ إلى عبد الإله بنكيران رئيس الحكومة آنذاك لتسوية الأمر، وهو ما تعهد به بنكيران أمْسًا قبل أن يَبْلَعَ لسانه اليوم ويختار الصمت؛ كَتَم الشهادة وهو يعلم يقينا أن شهادته كانت لِتُغير الكثير في قضية وزير حقوق الإنسان السابق قبل أن يُلَفَّ الحبْل على عنقه، وعموما ننقل لهذا الرجل «المُسلم» قول السَّلف: «الساكت عن الحق شيطان أخرس».
صمت بنكيران وازدواجية المواقف تجعلنا نعود خطوتَيْن إلى الوراء للوقوف عند القوانين التي تُوبِع من أجلها أغلب إن لم أقُل جُلُّ معتقلي الرأي سيما الفصل 447 – 2 من القانون الجنائي؛ هذا الفصل إلى جانب فصول متابعة أخرى كان من تشريع هذا الحزب الإسلامي: العدالة والتنمية، وقد جاء ضمن حُزْمة من الفصول التي مرَّت في عهده وتضمَّنها مشروع القانون رقم 103.13 والذي تضمَّنته مُسودة مشروع القانون الجنائي التي قدَّمها مصطفى الرميد وزير العدل والحريات في حكومة عبد الإله بنكيران في أبريل 2015، وسَيُصادِق على بعض تعديلاتها مجلس النواب في فبراير 2018 في عهد حكومة سعد الدين العثماني التي كان للبيجيدي أغلبية فيها.
وبذلك يكون حزب العدالة والتنمية الذي يريد العودة إلى الواجهة، قد مَهَّدَ على مدى ولايَتَيْن لما عشناه وما نعيشه من تراجعاتٍ حقوقية عبر مشاريع قوانين كثيرة اسْتعملتْها الدولة اليوم للزَّج بالنشطاء في السجون.
أن تتابع صحفيا أو ناشطا أيًّا كان من أجل التشهير أمرٌ بليد حقًّا وغير ذي معنى أمام التطور الهائل للتقنية؛ فالعالم اليوم تطور بكيفية لا يستطيع أحدٌ تخيُّلَها بانفتاح مواقع التواصل الاجتماعي واختلاف الوسائط الرقمية لنقل المعلومات والمحتوى الإعلامي عبر الإنترنت من هواتف محمولة وأجهزة لوحية وحواسيب وتلفزيون ذكي وألعاب إلكترونية وسماعاتٍ وغيرها.
في هذا الجيل الرقمي الجديد، أصبح لكل منَّا شاشته تلفازه الخاص، فالمواطن لم يعد بحاجة إلى مخرج أفلام بارعٍ ولا إلى طاقم تصوير محترف ولا إلى تقنيين في صناعة الفيديو ولا مهندسين في الصوت والصورة والتواصل، إذ يكفيه اليوم أن يوجِّه كاميرا هاتفه الذكي نحو حدثٍ يصنعه أو يُواجِهُه ليتحول من موضوع للخبر إلى صانع للخبر.
ودعوني هنا أذكِّرُكُم بواقعة اعتقال مدير صندوق النقد الدولي «دومينيك ستروس كان» الخبر الذي بَثَّهُ مواطن أمريكي عادي عبر «تويت/ تغريدة» تصادفت رحلته مع رحلة هروب دومينيك الملاحق من أجل «الاغتصاب» بمطار «كينيدي» بنيويورك، حيث سيتحول حساب تويتر هذا المواطن الأمريكي لمصدر موثوق لأكبر وأعْتى الصحف العالمية. هذا دون أن ننسى «هاندي فراتوهي» المذيعة التركية التي قامت بأشهر مكالمة هاتفية في تاريخ تركيا ليلة وقوع المحاولة الانقلابية في منتصف يوليوز 2015، عندما اتصل الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» بالمذيعة في قناة «سي إن إن تورك» ليدعو أنصاره للنزول إلى الشارع، لتصير هذه المكالمة التي جرت عبر تطبيق «فايس تايم» التابع لشركة «آبل»، نقطة تحولٍ حاسمة في محاولة الانقلاب، وجعلت من «هاندي فراتوهي» مديرة لمكتب «سي إن إن ترك» في أنقرة، وهاتفها سِلعة شهيرة يتسابق الكثيرون لشرائها مقابل مبالغ مالية طائلة، وها هي حتى اليوم لم تَبِعْ هاتفها محتفظة به في دُرْجِ غرفتها الخاصة.
في واقعة ثالثة هُنَا بالمغرب، لم يكن تِبْيَان الوضع الصحِّي للنقيب محمد زيان المعتقل بسجن «العرجات 1» أمام بلاغات المندوبية العامة لإدارة السجون التكذيبية، (لم يكن) يحتاج للكثير؛ فقط كاميرا هاتفٍ من النوع الذكي وفيديو من دقيقتين إلا قليلا، وها هو الفيديو قد قال ما لم نقله في مئات المقالات الصحفية وحَرَّك المياه الراكِضة حول الوضع الحقوقي المُشَوَّه في البلد.
فإذن أفرغوا السجون، فالعالم لم يعد يتحمَّل بَشَاعة الصور.
أفيش المقال بمواقع التواصل الاجتماعي: