رحل المغنّون، انطفأت الأضواء، وبقيت الفاتورة ثقيلة على من ساهم في استبدال الأولويات بالتصفيق.
مرّت ليالٍ من الصخب المُنمّق، من الوجوه الضاحكة والكاميرات التي تُظهِر الابتسامات المؤقتة المغطاة بمساحيق تجميل القهر خلف الحشود
أسمع عن ترشيد النفقات من جهة، و أرى الملايين تقذف من الجهة الأخرى على منصات الغناء… تُدق الطبول، لا ابتهاجًا بالنهضة، بل تهرّبًا من مواجهة الواقع.
موازين، ذاك الاسم الذي أصبح مرادفًا لفوضى الأولويات، لا يزال يُقدّم بوقار كحدثٍ ثقافيّ، بينما تُصرف فيه الملايين على فنانين عالميين ومحليين، في حفلاتٍ لا تُشبه الفقراء، ولا تصل صداها إلى قرى الهامش، حيث يتيبّس التعليم، وتضمحل الصحة، ويُخنق الأمل في زحام البطالة.
فلنسأل بشجاعة:
ما الجدوى من صرف الملايين سنويًا على أصواتٍ تمرّ مرور الكرام، في وقتٍ لا تجد فيه بعض المستشفيات المال لشراء أجهزة الكشف المبكر؟
أيُّ منطقٍ يُجيز أن يحصل مغنٍّ على مبلغ فيه أصفار كثيرة في ساعة غناء، بينما يشتغل طبيبٌ في قرى الأطلس بـمبلغ لايكاد يغطي الحاجيات الشهرية؟
أية فلسفة هذه التي تُقنعنا أن البهرجة ضرورة تنموية، وأن الإنفاق على الطرب أولى من دعم البحث العلمي؟
لكن المفارقة المؤلمة ليست هنا فقط…
بل في أولئك الذين يشتكون صباحًا من “الغلاء” و”الحكرة” و”البطالة”، ثم يركضون مساءً إلى خشبة “موازين” ليهتفوا بحناجرهم المقهورة لمن جاء وجنى ورحل.
نعم، هناك فئة من الشعب تشارك بوعي أو بدونه في هذه المسرحية المُكررة:
تُسهم في رفع الأرقام، وتُغذي الخطاب الرسمي بأن “الجماهير راضية”، ثم تعود لتشتكي من أوضاعٍ كانت شريكة بالصمت أو بالتصفيق في إنتاجها.
هل نرفض الفن؟
لا.
هل نحارب الموسيقى؟
أبدًا.
لكننا نسأل: أليس من حق هذا الوطن أن يرتّب أولوياته؟
أليس من الأجدر أن تُصرف هذه الأموال في ما يبقى ويُثمر؟
لقد آن الأوان أن نتوقف عن التصفيق، وأن نسأل السؤال الصعب:
أي فنٍّ هذا الذي يُغنّى فوق الجراح ؟ وأيّ توازن هذا الذي يُذبح باسم “موازين” .
*إعلامي مغربي.