العنوان نسبة إلى القطعة الأقوى في لعبة «الشطرنج» تلك الرقعة المربعة الشكل المقسّمة إلى 64 مربعا صغيرا، والتي تتحرك فوقها 32 قطعة منقسمتين بين فريقين، أسود وأبيض.
«الشطرنج» هي منطقة تتكاثف فيها ألغاز التاريخ والاقتصاد والسياسة والأدب أكثر من كونها مجرد رقعة للعب والتسلية، وما بين النسختين العربية والغربية يوجد تباين طفيف في التسمية؛ الأولى تطلق على أقوى شخصية في اللعبة صفة الوزير، بينما الثانية تطلق عليها: الملكة، وكانت حُجة العرب أن هذه الشخصية تتسم بالقوة والحركة والنشاط والسطوة والعنف والهيْبة.
«الوزير» أو «الملكة» في لعبة العقل، يعتبر القطعة الأكثر تحرُّكاً والأشد فتْكاً في صفوف الخصم لصلاحيات حركته الواسعة والتي تمتد في جميع أنحاء الرقعة ما لم يكن أمامه عائق سواء من الخصم أو من قطعك أنت. يسير الوزير ويأكل في جميع الاتجاهات بعدد لا نهائي من المربعات، كما يمكنه الانتقال من أول مربع إلى آخر مربع في الرقعة ما لم يكُن أمامه أي عائق من قطعك.
بعيدا عن هذه اللعبة المحبوبة من الجميع، للوزير دلالة على كرسي السلطة؛ هذا الكرسي الذي يملك سِحراً خاصا في حياتنا؛ فالحياة تبدأ معه وقد تنتهي بعد الرحيل أو بالسقوط منه.
في البلدان البعيدة عن الديمقراطية خاصة العربية منها، للمسؤولين علاقة عاطفية مع الكرسي أيا كان سواء كرسي السلطة أو كرسي الحكم، وعموما العبارة تشير إلى مناصب سياسية ترمز إلى القوة والسُلطة والعلاقة جد وطيدةٍ بين الكراسي والشخصيات النافذة.
في وضعنا ومع الأداء الحالي الضعيف الذي يطبع بعض مناصب المسؤولية يشير الكرسي إلى الغباء السياسي. مع المستولي على السلطة الغبي سياسيا يصبح الهاجس الأمني والاحتياطات الأمنية من غضب الجماهير أشدّ، تجده يميل لتضخيم الذات من قبِيل الشخصية البارانوية أو النرجسية قد تصل حدَّ التألّه، كما تجده مُدمنا للسلطة ميَّالا للعناد عند مواجهة الشعب في مقابل جمودٍ شبه تامٍ تجاه تحسين الأوضاع، وطبعا نهايته إفلاسٌ عام بعد طول فترة السلطة.
وعامة في البلد الوزير هو رمز لهكذا نوع من المسؤولين.
بمجرد ذكرك للعبارة (الوزير) سينط إلى ذهنك ومنذ الوهلة الأولى رئيس الحكومة أو وزير العدل أو أي اسم من وزرائه المحظوظين أو ممن يدخلون في دائرة التقديس من طرف «كِلاب الحراسة» بتعبير الفرنسي «بول نيزان» أو «كلاب الصحافة» بعبارة «أنوار السادات» ثالث رئيس لجمهورية مصر.
لوزير العدل في البلد وقائع غريبة عجيبة، وفي تضارب بين الصفة والفعل نجده يهدد بالسجن في مناسبة وفي غير مناسبة؛ ضحاياه كُثُر من الصحفيين فستجد الصحفي هشام العمراني والصحفي رضى الطاوجني والصحفي حميد المهداوي الذي أدين ابتدائيا بـ150 مليون سنتيم وبسنة ونصف حبسا نافذا، وها هي محاكمته الاستئنافية ستنطلق في الثالث من فبراير القادم، ومحاكمة أخرى ابتدائية في الحادي عشرة من نفس الشهر، واستدعاء ثالث حول فيديو لمجهول على تطبيق «التيك توك» مفبرك مجزأ من فيديو أصلي تفوق مدته 51 دقيقة. متابعة تلو أخرى والله يْحْدْ البَاسْ حتى أصبحنا أمام «ثلاثية حميد المهداوي» على وزن «رباعيات الخيام» وهي بالمناسبة نوع من الشعر عُرف به عمر الخيام؛ وشتان بين الشعر والسجن.
عندما تسأل في البلد عن أقصى ما يمكن أن يتمناه الأفراد؟ سيخبرونك أن الموت رحيم بالعباد. الأمر راجع طبعا للوضع العام الذي كرسته الحكومة عبر قرارات لا شعبية تخدم لوبيات دون غيرها في إطار أوليغارشية حاكمة في مقابل مواطنين اندحروا نحو القاع إلى منطقة الفقر أو ما دون الفقر. فالغلاء حقا بلغ أشده؛ غلاء في المعيشة وغلاء في أسعار السمك واللحوم والخضر والفواكه وغلاء في أسعار البنزين والغازوال، وعموما غلاء في أسعار كافة المواد الاستهلاكية وما دون ذلك لا يوجد.
في البلد، جل الفئات الاجتماعية تشتكي؛ إن سألت الموظف الحكومي )الوظيفة العمومية( فسيحدثك عن أجره الزهيد الذي لا يُسمن ولا يغني من جوع، وإن سألت الطبيب فسيحكي لك سَرْدِيَتَه مع الضرائب، وإن سألت الأستاذ فوضعه يُبْكيك مع الاقتطاعات وجمود الترقيات وسوء الوسائل، وإن سألت التاجر فستجده مُحرجا أمام زبنائه في الإفصاح في كل مرة عن أسعار سِلع ترتفع ولا تنخفض.
وزير حقوق الإنسان السابق لهذه البلد النقيب محمد زيان (82 عاما)، هو الآخر تمنَّى الموت وهو يحدِّث القاضي رئيس جلسة محاكمته الجنائية؛ قال إنه لا ينتظر شيئا وكل ما ينتطره أن يموت في زنزانته هناك بسجن «العرجات 1» حيث قضى أزيد من سنتين ومازال ينتظره الكثير. لكن دعوني أسأل وإياكم سؤالاً بديهيًّا: ماذا لو توفي النقيب السابق لهيئة المحامين بالرباط داخل زنزانته بعيدا عن أسرته وأبنائه، مع أننا لا نعرف السابق من اللاحق ولا يدري أحدُنا متى وأين وكيف سينتهي أجله؟ ألن يكون ذلك صورة بئيسة عن وضع حقوقي بئيس لبلد تُكرم رِجالاتها بسجنهم.
الصحفي توفيق بوعشرين الذي غادر السجن قبل أشهر قليلة، بات هو الآخر ممنوعا من مغادرة التراب الوطني محتجزا في سجن أكثر اتِّساعا؛ خرج من السجن الصغير إلى السجن الكبير.
وبما أن الأخبار لا تأتي فرادى، فجريدة الحياة اليومية هي الأخرى طالها الشطط، ليست المرة الأولى التي نتعرض فيها للتضييق إلا أنها المرة الأولى التي نجْهر فيها به بعد هذا الحكم القاسي: 100 مليون سنتيم لموظف عمومي بالقناة الأولى يتقاضى 10 ملايين سنتيم في الشهر، ومديرها المسؤول الذي لم يغادرها منذ أزيد من ربع قرنٍ!! إنه حكم القوي ولا قوي غير الله.
فؤاد عبد المومني الخبير في الاقتصاد هو الآخر مازال يحاكم جُنحيا من أجل رأيه، أيضا المهندس الشاب إسماعيل الغزاوي اعتقل وحوكم بسنة حبسا نافذا، دون أن ننسى طلبة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب بقواعد تطوان وتازة وفاس الذين أدينوا بأشهر حبسا نافذا، واللائحة هنا طويلة عريضة لضحايا انتهاكات حرية التعبير.
للتغطية على الوضع القاتم القائم لابد لمسؤولي البلد بنهج سياسة التمويه ذات الصور العديدة؛ ظاهرها الرحمة والإنسانية والعدالة والخير والنجاح، وباطنها الانتقام والوحشية والظلم والشر والفشل. ولعل خِداع الجماهير أشرّ أنواع هذه السياسة المَعِيبة والقاتلة للمستقبل السياسي للبلد، وقطعا إن المسؤول المُمَوِّه يخدع نفسه قبل أن يخدع الجماهير.
التمويه يتم بطرق كثيرة منها السيطرة على الإعلام، وهنا لابد من استحضار إشارة «نعوم تشومسكي» في كتابه «السيطرة على الإعلام» إلى أنَّ الدعاية أي «البروباغندا» في الدول الديمقراطية هي بمنزلة الهراوات في الدول الشمولية؛ لأنَّ هذه الدعاية تُحقق نفس غاية الحكم الاستبدادي في سلب الجمهور إرادته وحرية القرار لكن بطريقة أكثر تحضُّراً.
التلفزيون الرسمي كذلك اعتُمد ومنذ القِدم كآلية من آليات التلاعب بالعقول، وضروري أن نتوقف برهة عند التزاوج الحاصل بين الرأس المال والتكنولوجيا الحديثة؛ خاصة مع تحول التلفزيون من وسيلة للترفيه إلى وسيلة للتلاعب بالجمهور من حيث حجب المعلومة أو عرضها ناقصة أو مبتورة.
لكن دعونا نسأل هل فعلا تم التلاعب بعقول الجماهير هنا في البلد؟ الجواب حتما لا، فأغلب المغاربة إلَّم نقل جلُّهم هجروا القنوات العمومية الرسمية وشبه الرسمية، كما أن الجمهور الذي هجر حتى تلك المواقع المرتبطة ارتباطا وثيقا بالسلطة؛ تطرح وتدافع عن أفكارها، هو نفسه الجمهور الذي هجر العمل الحكومي (الوظيفة العمومية) فبات الفرد يبحث عن عمل أكثر استقلالية وحرية مالية، في سياق يطبعه التقييد المطلق للحقوق والحريات والحق في الإضراب عبر مشروع قانون تباينت عقوباته المالية الزجرية، والذي ينتظر التأشير عليه من طرف مستشاري الأمة.
بالعودة إلى سياسة التمويه وصناعة نجوم «السوشيال ميديا» الذين دأبت السلطة على تقديمهم كرموز: هل اطلعْت على اللائحة التي أفرجت عنها المجلة الأمريكية «فوربس» للعشر شخصيات الأغنى في العالم خلال العام 2025؟ ليس بعد. حسنا سأختصر عليك الطريق، نجوم التفاهة غائبون هذه المرة كما المرات السابقة، فالأمر يتعلق بمستثمرين عالميين في مجالات ريادة الأعمال والتكنولوجيا والابتكار بلغ مجموع ثرواتهم 1.9 تريليون دولار عند مستهل العام الجاري.
ستجدون أكيد المهندس المخترع «إيلون ماسك» عن مجموع شركاته «إكس» و«تيسلا» و«سبيس» و«إكس إيه آي» بصافي ثروة بلغ 421.2 مليار دولار، ورجل الأعمال «جيف بيزوس» مالك «أمازون» بصافي ثروة بلغ 233.5 مليار دولار، و«لاري إليسون» مالك إحدى الشركات العملاقة في صناعة البرمجيات «أوراكل» بصافي ثروة بلغ 209.7 مليار دولار، و«مارك زوكربيرغ» أكيد تعرفونه: مؤسس «ميتا» (فيسبوك) بصافي ثروة بلغ 202.5 مليار دولار، والفرنسي «برنار أرنو» الذي يقود شركة (إل في إم إتش LVMH) وتضم أزيد من 75 علامة تجارية بصافي ثروة بلغ 168.8 مليار دولار، والأمريكي «لاري بيج» أحد مؤسسي شركة «غوغل» بصافي ثروة بلغ 156 مليار دولار، وزميله في ملكية ذات الشركة «سيرجي برين» بصافي بثروة بلغ 149 مليار دولار، والأمريكي «وارن بافيت» صاحب الشركة القابضة «بيركشاير هاثاواي» بصافي ثروة بلغ 141.7 مليار دولار، ثم الأمريكي «ستيف بالمر» صاحب «مايكروسوفت» بصافي ثروة بلغ 124.3 مليار دولار، وأخيرا في الرتبة العاشرة الأمريكي «جنسن هوانغ» صاحب الشركة العملاقة في صناعة رقائق الكمبيوتر «إنفيديا» بصافي ثروة بلغ 117.2 مليار دولار.
مهلا انتهيت من العد، أكيد أن هذه الأسماء العملاقة وحجم الشركات الأخطبوط والثروات استأثرت بذهنك عزيزي القارئ لمعرفة نحن أمام أي نوعية من العقول وأية طينة من الإنسان، لكن المؤكد أنك لاحظت أن لا نجم من نجوم التفاهة يوجد بينهم؛ تلك التفاهة التي تغلف العقول في هذا البلد الأمين حيث ساد وسيطر التافهون على كافة مناحي الحياة وعلى موارد بحرها وبرِّها، وجعلوا سيْفَها فوق رِقاب العباد بواسطة قِوى ناعمة من أكاديميةٍ ومالٍ وإعلامٍ وترسانةٍ عظيمة من القوانين تستدرج نحو باب واحد هو باب السجن؛ حقا لقد بلغ الفساد مَبْلغه وأضحت العودة إلى الوراء شبه متعذرة.
كيف الخلاص؟ الجواب على لسان الفيلسوف الكندي «ألان دونو»: «كن راديكاليا أيها المثقف الحر، كن راديكاليا، وارفض نظام التفاهة».
أفيش المقال بمواقع التواصل الاجتماعي: