حسن بناجح*
في سوق يتلاطم فيها لهيب الأسعار، ظهر شاب بائع سمك قرر أن يعرض بضاعته بثمن معقول، كاسرا بذلك حلقة صلبة من الغلاء غير المبرر.
تصرف هذا الشاب كشف ما وراء الستار، سواء وعى بذلك أم لا، فضرب بذلك مثالا عمليا يفضح حقيقة لطالما حاول البعض طمسها: الأسعار ليست وليدة العرض والطلب وحدهما، بل هناك أيد تحركها وفق مصالح ضيقة.
لكن سرعان ما جاء الرد سريعا، لا بمنافسة عادلة أو تصحيحٍ للأوضاع، بل بإغلاق محله تحت ذريعة مخالفته لشروط الصحة والتخزين، لكن المفارقة أن مثل هذه الإجراءات نادرا ما تطبق على الأسواق الكبرى والحيتان الكبيرة التي تحتكر السلع وتتحكم في أثمانها، مما يثير تساؤلات حول العدالة الانتقائية في فرض القوانين.
ومع هذا الحدث، بدأت ماكينة الإشاعات تدور كالعادة، لتنتج قصصا متضاربة، فمنهم من يراه بطلا شعبيا حرك المياه الراكدة، ومنهم من يروج أنه مجرد شخص يبحث عن الشهرة. ومنهم من يرى أن الأمر مجرد مؤامرة وتوظيف متحكم فيه من الجهات الفاسدة نفسها.
وهنا تكمن المعضلة، إذ يُختزل النقاش في الشخص لا في القضية، فيُشغل الرأي العام بالسجال حول نوايا البائع بدلا من التركيز على السؤال الجوهري: لماذا هذا الارتفاع الجنوني للأسعار؟ وهل هو نتيجة عوامل اقتصادية موضوعية، أم أن هناك جهات تحتكر السوق وتفرض واقعا لا يعكس حقيقة التكاليف؟
إن إغلاق المحل ليس سوى رمز لمشكلة أكبر، فهو في الحقيقة لم يكن مجرد محل لبيع السمك، بل نافذة أطل منها الناس على واقعٍ أراد البعض أن يظل مستترا.
لقد كشف سلوك هذا الشاب كيف تدار الأسواق، ومن يملك مفاتيح التحكم فيها، وكيف يتم إخراس كل صوت يحاول كسر الاحتكار.
وطريقة التعامل معه كشفت أن الأمر لا يتعلق فقط بإجراء إداري أو مخالفة صحية، بل بصراع بين نموذجين اقتصاديين: نمجذح يرى في السوق ميدانا للمنافسة العادلة، وآخر يدار بمنطق الاحتكار والهيمنة ويرفض، بل يطحن كل من خالف أو وقف في وجه ماكينته المفترسة.
ربما يتمكن أصحاب المصالح من إغلاق محل، لكنهم لن يتمكنوا من إغلاق العقول التي بدأت تتساءل، ومنع الأحاديث التي تدور في الشوارع والأسواق حول حقيقة الأسعار ومن يحددها. هنا تكمن المعركة الحقيقية، بين من يريد للناس أن يرضخوا، ومن يجرؤ على كسر القواعد المفروضة عليهم دون وجه حق.
*عضو الأمانة العامة للطائرة السياسية بجماعة العدل والإحسان.